img_5717

هنا في مصر، هذه الدولة التي تعلمك الطبقية على أصولها، نعم و لأسبابٍ كثيرة، غير واردة في البلد التي ولدت و نشأت بها،  أو لم ألاحظها جيدا هناك في بلدي، في ذلك الجزء الصغير المقطتع من الوطن المسمى (قطاع غزة) ، إن أصابتنا مصيبة” وهذا ما لا يتوقف عن الحدوث” فكلنا نتأثر بهذا، إن لم يصبنا الضرر مباشرة فنحن نشعر بالأسى للضرر الذي لحق شخصا آخر،

مثلاً: إحتمالية سقوط صارخ على بيت شخص ما فقير هي نفس احتمالية سقوط الصاروخ على بيت شخص ما غني، وخسارة البيت و ربما الأهل واردة بكلتا الحالتين، بل قد تكون احتمالية سقوط ضحايا من عائلة ما غنية أكبر من احتمالية سقوط ضحايا لعائلة فقيرة، كيف يحدث هذا؟!

إن أغلب العائلات الأعلى بشكل ما طبقياً، هم من العائلات الكبيرة ذات الحسب والنسب والعدد، طبعاً هذا أيضاً يجعلها من العائلات المالكة لأراضي ومنازل في أماكن مختلفة في القطاع، احتمالية الضرر واردة حتما لا محالة، بجانب هذا فنحن في هذه البقعة من الوطن،لا يوجد اختلافات عظيمة في مستويات التعليم بيننا، فكلنا على الأغلب نفس نرتاد المدارس و الجامعات، نحن بشكل أو بآخر نلتقي في مجالات مختلفة في قطاع التعليم و الصحة و نتشارك أماكن و مناطق السكن،  و كلنا نأكل الحمص و الفول و الفلافل بنفس السعر من نفس المطاعم، كلنا نأكل الشاورما أيضا بنفس السعر أو بفارق بسيط، وربما نتشارك أماكن الترفيه على الأغلب لندرتها ،هذا لأننا نعيش في حدود ضيقة لا مفر من أن نلتصق بعضنا البعض، ما نعايشه من ظروف يصنع حتمية الالتحام في هذه النقطة، لكن قد الفجوة الوحيدة التي لا تكُف عن إثبات الحضور هي الفجوة بين المواطن و اللاجئ (للأسف)  لكن بشكل أو بآخر نحن نسيج مجتمعي لا يتعلم الطبقية بصيغتها اللاذعة و الصاروخية .

 

هنا في مصرالدولة الواسعة المترامية ، عديدة الأشكال و الأنماط و المستويات، الطبقية موجودةٌ في كل شيء، بدء من البيت الذي تولد فيه والحي الذي تقطنه عائلتك بالمدرسة التي سوف تلتحق بها فيما بعد حتى تصل للجامعة التي تختارها مرورا بمن تقابل في طفولتك و شبابك، وكيف تعيش، وما المواصلات التي تستعملها، أو الأكل الذي تناوله، حتى يأتي يومُ تصل فيه لما يمكن أن تصله أو تصنعه ليغير حياتك و ينقلك لعالم آخر من طبقتك إلى طبقة أخرى، و لن تستطيع التعايش معهم بسهولة أيضا ستحتاج إلى مجهود جبار لكي تتغير حسب ما تفرضه الطبقة الجديدة عليك و التي تعيش  أسلوب و عادات و تقاليد و ( بريستيج ) و كأنك تخرج من الشرق الأوسط لتعيش في أوروبا أو أمريكا مثلا، و أيضا إن كنت من المرفهين فلن يصح لك أن تحتك بمن يسكنون الجحور أو من يسكنون العشوائيات أو العمارات السكنية الضيقة ولا حتى من يسكنون في بيت مستقل بسيط في منطقة متوسطة ما، حتى تنتبه لهؤلاء الأشخاص في مجال العمل أو تفرض عليك الظروف بشكل أو بآخر أن تتعامل معهم، على الأغلب هذا ليس مؤكد الحدوث .

 

أنا من بين هؤلاء !

لا أستطيع تحديد ذلك فعلا، لأنني لا أنظر بشكل طبقي أبدا، ولا أتعامل بأسلوب مبتذل مع أياً يكن، أعامل البشر كما ربياني أبي وأمي، لكني بعد أن راقبت نفسي و أنا أعامل الناس حولي وجدت أني طبقي من الطراز الرفيع !

 

نعم، هذا حصل فعلا، أنا أضيق من التعامل مع الأغنياء المرفهين، نظرتي قاسية وصارمة و مجردة من العقلانية، أحكم عليهم بالغباء و السطحية من النظرة الأولى، لا أستطيع السيطرة على شعوري بالتقزز منهم مستندا إلى سبب اخترعته من بنفسي، الأغنياء هم السبب بأن بكون الفقراء فقراء، و هم يقصدون الظهور بهذا الشكل، لا أعلم من أين أتيت بهذه النظرية ،أياً يكن أنا أمارس ذكائي المفرط و غروري المبهر مع هؤلاء، و بعد أن أمل مللاً شديدا من حواراتهم المقيتة كما أعتبرها، فالحديث عن ( ماركة ) اللبس الفلانية، أو الرحلة المكلفة التي قام بها أحدهم في مكان رائع و التي لم ير فيها سوى الأشياء التافهة، أو الكلام عن فستان راقصة أو ممثلة أو قصة شعر مغني أو ممثل، ثم صراع سوق السيارات، و مميزات آخر ايفون، و يا سلام لو كان الحديث حول أنواع المخدرات الثمينة المختلفة، وما شابه من الحوارات التي لا تعنيني بشيء، وإن كانت تعنيني نوعا ما فليس بذلك السياق، أحيانا أصنع أو أنتهز فرصة ما لكي أحوارهم ليس لكي أبادلهم الكلام في الواقع، بل لأوقعهم في شر أفكارهم و أعمالهم ( كما أعتقد ) ، ثم إنني لا أتهاون في ضرب طبول المعارضة معهم في أي كبيرة و صغيرة حتى أصل لنتيجة واضحة و هي أنني أريد اتهامهم بالعنصرية و السطحية و الغباء، أريد سببا و مبررا لنفسي لكي أهرب من هؤلاء الذين سوف يذيقونني مرارة فاتورة ضخمة مكلفة بعد المكوث معهم في قهوتهم المحببة لهم التي قضيت فيها وقتا ليس ثمينا أبدا .

 

ولكن بعد مراقبتي أكثر وأكثر، وجدتني  لا أحصل على وقت مثمر أيضا عندما أجالس من أبادلهم التعاطف و الحب والقرب الغير مفهوم، البسطاء هؤلاء من أبذل مجهودا من نوع آخر في استعمال ذكائي المفرط في جعلهم يشعرون بالراحة لجلوسي معهم دافعاً إياهم لكي يحادثونني في أي شيء يريدون ، مبتسما لكل ما يقولون، حتى لو قاموا بسرد (الخناقة) الكبيرة التي حصلت في بلدهم في الصعيد أو الحي العشوائي الفلاني بسبب الماعز الذي أزعج زوجة شخص ما بموائه الذي لا يتوقف مثلاً، أو أن هناك دماء سالت على الأرض لأن أحد سائقي التوكتوك الصغار اصطدم بعربة بائع البطاطا الحلوة في نفس الحي !  تاركين السبب و تفاهته بينما يكثرون من تفصيلات اللكمة أو ( الشلوت ) أو الطعنة التي تشبه اللكمات و الطعنات في مسلسل ( الأسطورة ) !!  مضيفين كم كان رهيبا صراخ أم أحدهم أو زوحة أحدهم .

 

و لكن لماذا لا ألقي اللوم على البسطاء لذكرهم القرف الذي يذكرون، لأنني أؤمن بأنهم لم يحصلوا على اهتمام كاف في قطاع التعليم أو حتى فرصة لمراكز معية تهتم بالتثقيف و لا حتى في مجال الرعاية الاجتماعية ،ولا الصحة الجنسية أو الإنجابية، أرى أن الدولة تاركت هؤلاء البسطاء يتكاثرون دون الالتفات بأنهم آفة ثقافية تلتهم الدولة و شكلها و ثقافتها و تاريخها يوم بعد يوم، و سوف ينقضون على الأغنياء يوما ما، الكثرة تغلب كل شيء، حتى الرقي .

 

قد أكون مخطئا في كل ما أقول و لكن  قلبي مع البسطاء ! ليس فقط تعاطفا معهم، بل بالطبع لأنني أِشعر بأني وهجا من النور في تلك المساحة، الغرور قاتل أعزائي، لكنه محرك مهم، أنا أتنازل عن عمق الحوار لكي أشعر بالراحة النفسية، هؤلاء لا يراقبون ملبسي ولا ينظرون إلي و أنا أتناول كاس القهوة  و أدلق نصفها على ملابسي، بل يستمعون بإنصات  واهتمام عندما أعلق على شيئ ما، إنهم لا يرفضون أي نوع من الحوارات التي يمكن أن اطرحها عليهم،لأنهم منذ اللحظة الأولى بمنتهى البساطة قاموا باعتباري مختلفا عنهم بعكس ما قد تمليه مشاعر الأغنياء عليهم، فهم لا يطيقون بأن يشعر أحدهم بأنه مختلف، ولا يحبون أن يشعروه بذلك، حتى لو كان من جنسية و ثقافة أخرى , حتى لو كان فنان أو حتى لو كان يعاني من التوحد، فهم يرون أنه أياً يكن لن يأخد حيزا كبيرا، بل من الأفضل أن يتم وضعه في الزاوية لكي لا يلتف أحد إليه ! .

 

لم آت على ذكر الطبقة المتوسطة و شبابها، رغم أنهم كثيرون و منتشرون، لقد رأيتهم يملؤون ( وسط البلد )، محيرون لا يختفون،  إنهم هناك كل يوم، طوال الوقت، لا أعلم ماذا يفعلون و كيف يعيشون، لكن هم ببساطة إما يتعضعضعون في قالب (نحن لا نعني شيئا) نحن كما نحن لن نتغير، أو يتشكلون لغرض ما ويبالغون في الزيف لكي يظهروا بمظهر ليس مظهرهم، و يبحثون عن اهتمامات قد يكون من الصعب عليهم ملاحقتها لاحقا فقط لكي يقوموا بمجاراة من يرغبون في مجاراتهم من الطبقات الأعلى، و هؤلاء الوسطيون يفضلون مجاراة الأجانب و الزوار،  في الحقيقة هم قادرون على تسليتهم، و حلبهم، لكنهم يربكونني و أشعر أنني يجب علي الحذر من التعامل معهم، لأنهم يمتازون بالذكاء، و لكن ذكاء خبيث قد يتمكن مني،  و أنا أهاب هذا النوع من الناس هنا .

 

كل هذه الهواجس التي ذكرت تؤكد على أنني أعاني من الطبقية بشكل واضح و مستقر في ذاتي حتى الآن، و تثبت أيضا أنني أصدر الأحكام مثلي مثل غيري، بل و أدع أنانيتي تختار من أجالس، هذه الأنانية التي ساهمت و لا زالت تساهم في صعوبة صنع نسيج معين لفريق عمل أريده اليوم .

في الحقيقة هناك استنتاج أخير أريد البوح به، مرورا بكل ما ذكرت فإن مقابلة شخص واحد على حدة لها سياق مختلف، ليس مختلف جدا ولكن تعصبي و طبقيتي و نظرتي للأمور تكون أقل حدة، رغم أنني في النهاية  أصل لنفس النتيجة فأنا أجد أن مرافقة البسطاء أكثر ثراء من مرافقة غيرهم، و ربما فقط لأنني أجير الأمور كما أريد،  أحيانا يبهرني أن أقابل قراء و مثقفين و أصحاب تجارب لم أتخيل أن أجدها عندهم .

 

بعد كل هذا، من هناك ! .